الألف ليرة تروي قصتها
أحبائي ... أصدقائي ...
اسمي الألف ليرة سورية ، وأنا غنية عن التعريف فكلكم يعرفني جيدا، ويحبني كثيرا، ويسعى لأجلي طويلا وبكافة السبل المشروعة أحيانا والغير أحيانا أخرى ..
أكتب قصتي هذه قبل دقائق من انتحاري بعد أن ضاقت بي الحال وتقطعت السبل ... فأنا لم أعد تلك القوية المتماسكة .. ولم أعد أساوي أكثر من سعر 6 أطباق بيض ... وربع فاتورة كهرباء ... وكشفية طبيب متخصص ... وذلك بالرغم من أنني أكبر اخواتي وأعظمهن سلطة .
لكن وحتى أكون صادقة معكم ... ليس هذا هو السبب الوحيد
لكن هنالك ما هو أهم مما سبق .
لقد تنقلت بين أيدي كثيرة ... وكانت رحلتي طويلة ... كنت ذات مرة بين يدي مليونير لم يعرني اهتماما إذ لم أكن سوى واحدة من ألوف الشقيقات اللواتي يشبهنني في كل شيء إلا الرقم الخاص .
ومرة أصبحت بين يدي اللحام ... ولا أخفيكم كم كان يوما صعبا وكم تمنيت أن أقفز من جيب بنطاله إلى حوض مغسلة وبانيو مليء بالرغوة والصابون .
وكم من مرة تم تسليمي إلى موظف ... وهذا الأخير كان يحاول المحافظة علي ما أمكن ... قبل أن يستسلم في النهاية ويفرط بي لأتحول إلى بعض الخضار والفواكه ... وحفنة من اخواتي الصغيرات عشرة وخمس وعشرين.
لن أطيل عليكم فالرحلة كانت طويلة فعلا ... وقد قررت انهائها الآن .لماذا؟
سأقص عليكم تفاصيل رحلتي الأخيرة .
قبل بضعة أيام ... بدأت الأيادي تتلقفني بسرعة ... وما ان أقع بيد أحدهم حتى أنتقل إلى أخرى وهكذا. لم أعرف ما الذي يحدث ... لكن في أحد الليالي سمعت صوت بكاء شديد ... بل لنقل أنه نحيب .. وسمعت حوارا دار كالتالي بين من عرفت أنهم أبو سمير وأم سمير:
أبو سمير: مشان الله أم سمير ... اهدي وحاجة بكا ... ان شاء الله بنطلع من هالمحنة على خير .
أم سمير: ماعم بقدر ... الولد رح يروح بين ايدينا .
- باذن الله منعمل العملية وبيرجع سمير متل ما كان وأحسن .
- اتطلع يا أبو سمير ... الولد راح نصو ... وهالورم اللعين كل يوم عم ياكل من جسمو شقفة ... والله سمير مبين عليه عمرو 70 سنة .. مو سبع سنين .
- هادا قدرو ما بنقدر الا نستعين برب العالمين ... وان شاء لله الدكتور رح يوافق ينقص من أجرتو ألفين ليرة ويعمل العملية ... أنا ما صدقت ايمتى قدرنا نجمع هال 12.000 ليرة من أهل الخير ... أكيد قلب الطبيب رحيم ومارح يكرفنا ... أكيد .
- لو قدرنا نعملها بمستشفى حكومي ...
- والله عملت المستحيل يا أم سمير وانت بتعرفي ... لكن أقرب موعد عطوني ياه بعد 40 يوم ... والولد كل دقيقة زيادة عم يتراجع سنة لورا ... يقبر قلبي ...
ومن ثم يا أصدقائي ... بدأ أبو سمير يبكي بدوره على صغيره المسكين ... واخيراً جاء الطبيب .
- شو يا جماعة تأمن المبلغ؟
- ناقص ألفين يا دكتور ... ببوس ايدك ورجلك ما بقي حدا ما تدينت منو ...
- لا يمكن ... يعني حاجة صرلو يومين بالمستشفى بضمان ألف ليرة ما بتكفي اجرة ساعتين ..
- دكتور تحب الملائكة (ثم سمعت صوت ركب أبو سمير وهي تضرب بالأرض) .. والأنبياء ... ابني رح يموت ..
- يا سيد شيل ابنك من هون هيدا مستشفى خاص مو جمعية خيرية ... ياللا ..
- طيب ... رح أدفع ألف هلأ بس لبكرا بركي بيكون تأمن باقي المبلغ .
- رح كون كويس معك يا أبو سمير ... معك 24 ساعة وعجل ابنك بخطر .
ومرت ساعات يا أصدقاء لم أهدأ فيها عن الحركة ... حيث كان أبو سمير يهرول في كل مكان ... يصعد الأدراج ... يركب المواصلات ... يبحث في كل مكان عن بضعة آلاف ... فكان أحيانا ينال العشرة ليرات.. والبعض يتكارم فيمنحه المية ... والأغلبية لا تصدقه وتعتبره ممثلا بارعا يستجدي الناس بحجة ولده الصغير ... كذبة اعتاد عليها الناس وكم كنت أتمنى أن يكون لي لسان أنطق به لأقول لهم أن هذا الرجل صادق وليس كغيره .... كم دعوت أن تحدث معجزة فأتوالد وأتكاثر وأنجب ثلاثة أولاد يحملون نفس الجينات (3 أصفار) ..
أخيرا تأمن المبلغ ... وطار أبو سمير إلى المستشفى ... لكن ...
استقبلته الممرضة وهي تخبره بصوت حزين: البقية بحياتك يا أبو سمير ...
لم أعرف تماما ماذا حدث بعدها ... صمت مطبق ... لعل أبو سمير وزوجته غابا عن الوعي .. مثلما حدث لي تماما .
المؤسف أن ذلك الطبيب قد أخذني من ضمن ما أخذ قبل أن يسلم جثة الصغير ... وقبعت في جيبه وأنا أتمنى الموت له وأدعو عليه بالويل والثبور ...
بعد يومين ... ذهبت مع هذا الطبيب إلى مكان ما عرفت أنه ملهى ليلي ... فقد ملأت رائحة الخمور وأصوات الفرقة الموسيقية و(خشخشة) ملابس الراقصة المكان .
بعد دقائق ... قام الطبيب وأخرجني مع شقيقاتي الأخريات ... ثم قام بإلقائنا واحدة تلو الأخرى أمام أقدام تلك الراقصة الفظيعة ... أربعة أوراق من فئتي .. وأنا الخامسة .
وجاء أحدهم وأخذ يجمعنا ... ثم وضعنا في صندوق خاص .
كنا مجموعة كبيرة ... كبيرة من الألوفات .
لم أستطع أن اقاوم شعورا بالحزن والسخط ... بالغضب ... بالقرف والاشمئزاز من هذا العصر الفظيع ... عصر المادة والمصالح .. عصر تم دوس الأنسانية وسحقها تحت أقدام الرعاع والمجرمين
عشت أياما من الاكتئاب الحاد.. وكلما حاولت ابعاد القصة عن تفكيري .. تأتيني صورة الصغير المسكين ... تليها صورة الطبيب والراقصة ... وأخير .. اتخذت قرار لا رجعة عنه ... قررت الانتحار .
أقول لكم في النهاية : لو أنني أضمن بقائي في جيوب الشرفاء والمخلصين ... لكنت أسعد ألف ليرة على وجه الأرض .
لكن معظم من رافقتهم أظهروا لي الوجه البشع للانسان..
وربما لو كان جنسي خمسة ... عشرة .. خمسة وعشرين .. لكانت انقلبت الآية.
وداعا .